ALL4 Palestine 

 Mohammad loay    Ramallah Palestine. Copyright © 2003 All rights reserved

 الصفحة الرئيسية

اعرف عدوك؟

 

 

يهودُ العالم

اولاً: يهود ام جماعات يهودية

 

أ) الشعب اليهودي

   يتصور كثير من الدارسين ان كلمة «يهودي» دال له مدلول واضح ومحدد يشبه في وضوحه وتحدده دالاً مثل «الماني». فالالماني هو فرد ينتمي الى الفرع النوردي من الجنس الابيض من الناحية العرقية، والى الحضارة الغربية من الناحية الحضارية العامة، والى الثقافة الجرمانية من الناحية الاثنية. وهو يتحدث الالمانية، وينتمي الى الشعب الالماني. والعناصر المشتركة بين افراد هذا الشعب كثيرة ومهمة، ولذا فهي ذات مقدرة تفسيرية وتصنيفية تفوق بمراحل العناصر غير المشتركة بينهم (تعدد اللهجات - تنوع الالوان المحلية - انقسامهم الى طبقات).

   ويتحدث كثير من الدارسين عن اليهود وكأنهم كتلة واحدة متماسكة ومتجانسة فعلاً؛ ويتم التعبير عن هذا بكلمات، مثل كلمة «جوري» (jewry) الانكليزية التي تعني «اليهود باعتبارهم كلاً متماسكاً»، ويصبح افتراض الوحدة والتماسك والتجانس اقل كموناً واكثر وضوحاً حينما يتحدث الباحث عن اليهود باعتبارهم «الشعب اليهودي» و«الامة اليهودية»، وهو ما يعني ان اليهود ينتمون الى تشكيل حضاري واحد، وان لهم تاريخاً واحداً، ومصيراً واحداً، ومستقبلاً واحداً، وربما عرقاً واحداً وانتماء ثقافياً واحداً، وان مصالحهم واحدة وتطلعاتهم واحدة، وان العناصر المشتركة بين يهود العالم اكثر اهمية من العناصر غير المشتركة.

   والسؤال الذي يطرح نفسه: اذا كان ثمة عناصر مشتركة بين يهود العالم، فما هي؟ وهل هذه العناصر المشتركة اكثر تفسيرية واهمية من العناصر غير المشتركة؟

 

ب) التاريخ اليهودي

   لنأخذ، على سبيل المثال، فكرة «التاريخ اليهودي» الذي هو مصطلح يفترض وجود تاريخ يهودي مستقل عن تاريخ جميع الشعوب والامم، وهو مفهوم تتفرع عنه وتستند اليه جميع مفاهيم الاستقلال اليهودي الاُخرى. ومفهوم التاريخ اليهودي يفترض ان لهذا التاريخ مراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوره الخاص، بل ايضاً قوانينه الخاصة. وهو تاريخ يضم اليهود اساساً، يتفاعلون داخله مع عناصره مقصورة عليهم من اهمها دينهم وبعض الاشكال الاجتماعية الفريدة. واستقلالية أي بناء تاريخي تعني استقلالية بُناه الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك استقلالية البُنى الحضارية والرمزية المرتبطة به، وتجانسها النسبي في كل مرحلة من مراحله. كما ان هذا البناء التاريخي يضم جماعة من الناس لا وجود لها خارجه، ولا يمكن فهم سلوكها الا في اطار تفاعلها معه. لكن من الثابت تاريخياً ان الجماعات اليهودية المنتشرة في ارجاء العالم كانت توجد في مجتمعات مختلفة تسودها انماط انتاجية وبُنى حضارية اختلفت باختلاف الزمان والمكان. فيهود اليمن في القرن التاسع عشر، كانوا يعيشون في مجتمع صحراوي قبلي عربي، اما يهود هولندا فكانوا في الفترة ذاتها يعيشون في مجتمع حضري رأسمالي غربي. ولكل هذا نجد ان سلوك اليهودي اليمني ورؤيته للكون تحكمهما الى حد كبير عناصر البناء التاريخي العربي الذي يعيش فيه، تماماً كما تحكم سلوك يهود هولندا ورؤيتهم مكونات البناء التاريخي الغربي الهولندي.

   والآن، اذا افترضنا وجود تاريخ يهودي فعلاً، فما هي احداث هذا التاريخ؟ هل الثورة الصناعية، على سبيل المثال، هي من ضمن احداث هذا التاريخ، ام انها حدث ينتمي الى التاريخ الغربي؟ في الواقع سنكتشف ان الثورة الصناعية حدث ضخم في التاريخ الغربي، ترك اعمق الاثر في يهود العالم الغربي، واحدث انقلاباً في طرق حياتهم ورؤيتهم للكون في القرن التاسع عشر، أي بعد حدوث الانقلاب بفترة وجيزة. لكن هذا الانقلاب لم يحدث لهم باعتبارهم يهوداً وانما باعتبارهم اقلية توجد داخل التشكيل الحضاري الغربي؛ اذ اننا سنجد ان هذا الانقلاب في طرق الحياة والرؤية قد حدث ايضاً لاعضاء الاغلبية ولاعضاء الاقليات الاُخرى الموجودة داخل المجتمعات الغربية. وفي الوقت ذاته، لم يتأثر يهود العالم العربي بالثورة الصناعية بالدرجة نفسها وفي الوقت نفسه لان التشكيل الحضاري العربي كان بمنأى عنها في بداية الامر. لكن بعد نحو قرن من الزمان، بدأ هذا التشكيل يتأثر هو الآخر بالثورة الصناعية، وبالتالي بدأ اثرها يمتد الى معظم المجتمعت العربية بأغلبياتها واقلياتها. اما يهود اثيوبيا، فلم يتأثروا الا على نحو سطحي، لان المناطق التي كانوا يعيشون فيها ظلت بمنأى عن هذه التحولات الكبرى، وبقيت ذات طابع قبلي حتى الوقت الحاضر. لذا، يمكن القول ان معدل تأثر اليهود بالثورة الصناعية مسألة مرتبطة بكونهم اعضاء في مجتمع ما، فاذا تأثر هذا المجتمع بالثورة الصناعية فان اعضاء الجماعات اليهودية يتأثرون بها بالمقدار ذاته. ولذا، فالاطار المرجعي للدراسة لا يمكن ان يكون التاريخ اليهودي. ولو جعل الباحث هذا التاريخ مرجعيته لعجز عن تفسير كثير من عناصر عدم التجانس والتفاوت في هذا التاريخ، ولاضطر الى ليّ عنق الحقائق ليفسر سبب تأثر يهود لندن بالثورة الصناعية فور حدوثها ولم يتأثر بها بعض يهود اثيوبيا حتى الآن!

 

ج) هوية يهودية وموروث يهودي

   اذا كان من الصعب قبول مقولة «التاريخ اليهودي»، فانه يصبح من الصعب بالتالي الحديث عن «الهوية اليهودية» أو عن «الشخصية اليهودية»، اذ ان من الواضح أن أعضاء الجماعات اليهودية هم جزء لا يتجزأ من التشكيلات الحضارية التي يعيشون في كنفها، يتفاعلون معها تأثيراً وتأثراً، شأنهم في هذا شأن أعضاء الأغلبيات والأقليات.

   ولنأخذ على سبيل المثال الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات اليهودية. اننا سنلاحظ مثلاً أن اللغات التي يتحدثون بها تختلف باختلاف المجتمع الذي ينتمون اليه، فهم يتحدثون الانكليزية في البلاد التي تتحدث بها، والفرنسية في فرنسا، والجورجية في جورجيا.

   وتشير المراجع الصهيونية الى اللادينو (اللهجة التي كان السفارديمن يتحدثون بها) والييديشية (اللهجة التي كان أشكناز شرق أوروبا يتحدثون بها) باعتبارهما تعبيراً عن الاستقلالية اليهودية. لكن من المعروف أن ظاهرة اللهجة المستقلة ليست مقصورة على اليهود، فكثير من أعضاء الأقليات ممن يضطلعون بوظيفة معينة (كالتجارة والربا) يبقون على لغتهم وسيلة للحديث. ولعل من أصدق الأمثلة لذلك الأرمن في الدولة العثمانية والصينيون في جنوب شرق آسيا، الذين يضطلعون بوظائف منالية محددة، فهؤلاء يتحدثون لغتهم الأصلية ويحتفظون بتماسكهم، لكن بزوال وظيفتهم يرحلون عن الوطن أو يندمجون فيه. وهذا ما حدث للادينو واليبديشية، فالأولى انقرضت تماماً، أما الثانية فقد أصبحت لغة المسنين في بعض بقايا الجيوب اليهودية في شرق أوروبا، وهي في طريقها الى الاختفاء.

  و يقوم المؤلفون اليهود بوضع مؤلفاتهم بلغة أوطانهم، وحتى المؤلفات الدينية التي كانت تكتب بالأرامية أو العبرية، فانها تكتب الآن بالانكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، أو بأية لغة يجيدها المؤلف من أعضاء الجماعات اليهودية. ولم يعد يكتب بالعبرية سوى المؤلفين الاسرائيليين.

  واذا تركنا اللغة (هذا الوعاء البالغ الأهمية) ونظرنا الى الأدب والفنون التشكيلية، فسنجد أن التقالد الأدبية والفنية التي يبدع المؤلفون والفنانون اليهود من خلالها هي تقاليد بلادهم. ولا يمكن فهم ابداعات هؤلاء الحضارية الا بالرجوع الى موروثات بلادهم الحضارية. ولو عاد الباحث الى مفهوم الهوية اليهودية العامة والعالمية لضل سواء السبيل تماماً. وقل الشيء نفسه عن الأزياء والأطعمة والطرز المعمارية.

   وحتى لو كان ثمة خاصية ما تفصل اليهود عن محيطهمن الحضاري، فان هذه الخاصية (مثل تكلم يهود شرق أوروبا بالييديشية بعض الوقت) تظل مقصورة على أقلية يهودية بعينها، ومرتبطة بملابسات تاريخية وأوضاع اجتماعية وفترة زمنية محددة. وبالتالي، فهي ليست خاصية يهودية عامة أو عالمية، وانما هي خاصية تتسم جماعة يهودية ما بها، توجد داخل زمان ومكان محددين، وهي في هذه الحالة الجماعة اليهودية في شرق أوروبا من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن العشرين. وهي أيضاً خاصية لا تربط بين هذه الجماعة اليهودية وغيرها من الجماعات، بل بالعكس، انها تزيدها فرقة وتنوعاً. فاليهود خارج هذا الزمان وهذا المكان لا يتحدثون اليديشية، وبعضهم يرفضها. وقد نشب صراع بين دعاة الييديشية من أنصار قومية الدياسبورا ودعاة العبرية من الصهاينة، كما هاجم مثقفو حركة الاستنارة في ألمانيا الييديشية باعتبارها ألمانية مشوهة ولغة الغش التجاري والتخلف الحضاري! وقد اختفت الييديشية، بينما استمر يهود شرق أوروبا في الوجود، يتحدثون لغات أوطانهم: الروسية، البولندية، الأوكرانية، والألمانية.

 

 د) سفاريم وأشكناز

  ويهود العالم الاسلامي

     يمكن تصنيف الجماعات اليهودية المتنوعة على عدة أسس، كلها ذات مقدرة تفسيرية وتصنيفية جزئية، وهذا يعود الى اشكالين أساسيين كامنين في الشرع والموروث الديني اليهوديين، فاليهودي يعرف بأنه من ولد لأم يهودية و تهود بحسب الشريعة. وهو ما يعني أن هناك أساساً عقائدياً (التهود والايمان باليهودية) وأساساً عرقياً (لأم يهودية)، أي أن الانتماء الى اليهودية يمكن أن يتم على أساس أي من المنطلقين. كما أن اليهودي الملحد يظل يهودياً على الرغم من الحاده (وهذا أمر ينفرد الشرع اليهودي به دون الاسلام أو المسيحية).

   ويمكن تصنيف أعضاء الجماعات اليهودية، على أساس عرقي أو أثني، الى مجموعات كبرى ثلاث:

 

    (1) السفارديم:

     هم اليهود الذين كانوا يتحدثون اللادينو، وهم نسل أولئك اليهود الذين عاشوا في شبه جزيرة وأيبريا أصلاً. وحينما طرد أعضاء الجماعة اليهودية منها اتجهوا الى الدولة العثمانية واليونان وشمال افريقيا. وكان قطاعات من يهود المارانو المتخفين (الذين أظهروا الكاثوليكية وأبطنوا اليهودية هرباً من محاكم التفتيش) تلحق بهم وتشهر يهوديتها فتصبح من السفارديم. وكان بين السفارد نخبة تمتلك مهاات ادارية، كما كانت تمتلك رأس مال كبيراً يؤهلها للاضطلاع بدور التجارة الدولية. وفعلاً، كون السفارد شبكة تجارية دولية فقاموا، بالتالي، بدور أساسي في تطوير الرأسمالية الغربية. ولهم طريقتهم الخاصة في الصلاة والطقوس الدينية، ولذا يمكن الاشارة الى النهج السفاردي في العبادة، كما أن عبريتهم تختلف عن عبرية الأشكناز. وكان السقفادر أكثر اندماجاً في محيطهم الحضاري وأكثر استيعاباً للحضارة العربية ثم الحضارة الغربية . وظهر في صفوفهم الفيلسوف اسبينوزا ورئيس الوزاء ديزرائيلي. وثمة عداء متأصل بين السفارد والأشكناز فالسفارد كانوا أرستقراطية اليهود، وكان استقرار الأشكناز في أماكن تجمعهم يسبب لهم الحرج، وكانوا لا يتعبدون معهم ولا يتزوجون منهم، وكانوا يحاولون الاحتفاظ بمسافة بينهم، وقد انقلب الوضع رأساً على عقب بعد أن تحولوا الى أقلية وحقق الأشكناز بروزاً في الحضارة الغربية، وبعد اعلان دولة اسرائيل.

(2) يهود الشرق والعالم الاسلامي:

   يشار الى يهود الشرق والعالم والاسلامي بأنهم «سفارد» أيضاً، وهذه تسمية مغلوط فيها، ويعود هذا الى أن كثراً منهم يتبع النهج السفاردي في العبادة، لكن هذا لا يجعلهم من السفارد، فتجربتهم الدينية والثقافية والتاريخية مختلفة تماماً. وينقسمك يهود العالم الاسلامي الي عدة أقسام، أهمها يهود البلاد العربية أو اليهود المستعربة الذين استوعبوا التراث العربي وأصبحوا جزؤاً لا يتجزأ منه.

  غير أن هناك جماعات صغيرة أخرى، مثل اليهود الأكراد وبقايا السامريين ويهود جبال الأطلس من البربر ويهود ايران، وغيرهم. ويتميز كل فريق بأنه مستوعب في اطاره الحضاري للمجتمع الذي يعيش في كنفه فيتحدث لغة، بل أيضاً لهجة المجتمع الذي يعيش فيه، ويتعامل مع العالم من خلال أنساقه الثقافية والرمزية. وهناك أحياناً سمات دينية فريدة لأعضاء هذه الجماعات الصغيرة، تعزلها عن التيار الرئيسي لليهودية، اذ ان

المكون الاثني كثيراً ما يؤثر في المكون الديني.

(3) الأشكناز:

   هم أساساً يهود شرق أوروبا (روسيا/ بولندا) الذين يتحدثون الييديشية (وهي ألمانية العصور الوسطى بعد أن دخل عليها بعض المفردات السلافية والعبرية، وتكتب بحروف عبرية). ويعود أصلهم الى ألمانيا (أشكناز بالعبرية). ومع أن أغلبية الأشكناز كانت تتحدث الييديشية، فقد كان هناك أشكناز يتحدثون اللغات الأوروبية الأخرى. وحينما كان المهاجرون الأشكناز يغادرون بولندا الى بلاد مثل هولندا وانكلترا ثم الولايات المتحدة، كانت المجتمعات المضيقة (بما في ذلك أعضاء الجماعة اليهودية فيها) تعتبرهم متخلفين، فقد كانوا يعملون كصغار مرابين وباعة متجولين، وكانوا يحضرون معهم بعض الأمرا الاجتماعية، كالغش التجاري والدعارة. وكانوا يظهرون عزوفاً عن الانداماج، ولا سيما أن أزياءهم وطريقة قص شعرهم محختلفة، فكانت تميزهم وتعزلهم عن محيطهم الحضاري الجديد. وصيغ الدين اليهودي التي يعرفونها تختلف عن الصيغ التي يعرفها السفارد.

  ولذا، يمكن الحديث أيضاً عن النهج الأشكنازي في العبادة. والمسألة اليهودية كانت أساساً مسألة شرق أوروبا من الاشكناز. وقد ظهرت جميع الحركات الفكرية اليهودية الحديثة في صفوفهم أيضاً: حركة الاستنارة اليهودية- اليهودية الاصلاحية- اليهودية المحافظة- قومية الدياسبورا- البوند، وأخيراً الصهيونية التي بدأت كحركة أشكنازية تهدف الى تأسيس دولة أشكنازية، لكن يهود الشرق والعالم الاسلامي وبقايا السفارد اكتسحوها.

 

هـ) اصلاحيون ومحافظون وأرثوذكس

  وطوائف وعبادات أخرى

    أما من الناحية الدينية، فيمكن تقسيم يهود العالم الى قسمين أساسين:

(1) يهود اثنيون، وهؤلاء فقدروا كل علاقتهم بالعقيدة اليهودية والموروث الديني، وهم يرون أن يهوديتهم تكمن في اثنيتهم، أي في أسلوب حياتهم وموروثهم الثقافي. ويمكن القول ان أكثر من نصف يهود أميركا يهود بهذا المعنى، أما في الاتحاد السوفياتي (سابقاً)، فان عددهم يزيد عن ذلك كثيراً. ويشار الى هذا الفريق بأنه اليهود الملحدون أو العلمانيون.

(2) يهود يؤمنون بصيغة ما من صيغ العقيدة اليهودية، وهؤلاء ينقسمون الى عدة أقسام:

(أ) اليهودية الأرثوذكسية: هي وارثة اليهودية الحاخامية أو المعيارية أو التلمودية. وهي الصيغة اليهودية التي سادت بين الجماعات اليهودية الأساسية في الغرب منذ العصور الوسطى حتى نهاية القرن التاسع عشر. ويؤمن اليهود الأرثوذكس بأن التوراة مرسلة من الاله، وبأن كل ما جاء فيها ملزم. ولذا، فهم يرون ضرورة أن يلتزم اليهودي تنفيذ الوصايا والنواهي (المتسفوت)، وضرورة اقامة الشعائر كافة، بما في ذلك شعيرة السبت والطعام الشرعي.

(ب) اليهودية الاصلاحية: هي أول المذاهب اليهودية التي تحدث اليهودية الحاخامية وظهرت في ألمانيا (مهد الاصلاح الديني المسيحي)، وتعد ترجمة لفكر عصر الاستنارة. وهي تحاول أن تعبر عن العصر الحديث، فتحكم العقل في ك«ل شيء، وتحاول أن تفصل المكون الديني عن المكون العرقي أو القومي في العقيدة اليهودية بحيث يصبح المكون الديني وحده ملزماً، ويسقط أي تفسير قومي لأفكار مثل «العودة» و «النفي»، و «العصر المشيحاني» (نسبة الى المشيح أو المخلص اليهودي)، بحيث تصبح كلها أفكار تعبر عن تطلع ديني يتحقق في آخر الأيام، أو بالتدريج عبر التاريخ. وهذا كله يهدف الى تعميق ولاء اليهودي للوطن الذي يعيش فيه ودمجه في محيطه الحضاري بحيث يتحول الى مواطن في الشارع ويهودي في منزله.

(ج) اليهودية المحافظة: هي مجموعة من التارات الفكرية تصدر عن الايمان بأن العقيدة اليهودية تعبير عن روح الشعب اليهودي الثابتة (لا روح العصر المتغيرة)، وبأن هذه العقيدة تطورت عبر التاريخ وأخذت أشكالاً مختلفة، وبأنها من ثم قادرة على التكيف مع اللحظة التاريخية. فاليهودية ليست مجموعة عقائد ثابتة وانما هي تراث آخذ في التطور التاريخي الدائم. لكن أي تغيير يدخل على هذه العقائد لا بد من أن يكون نابعاً من صميمها معبراً عن رح الشعب اليهودي وهويته. ويمكن القول ان اليهودية المحافظة ترى الدين اليهودي باعتباره، في واقع الأمر، ان اليهودية المحافظة ترى الدين اليهودي باعتباره، في واقع الأمر، الفولكلور اليهودي، و الروح القومية اليهودية. وهي في هذا قريبة للغاية من الرؤية الصهيونية لليهودية، على الرغم من أن ما يهمين على المؤسسة الدينية في اسرائيل هي اليهودية الأرثوذكسية.

ولا تؤمن اليهودية الاصلاحية أو المحافظة بأن الكتاب المقدس مرسل من الاله، وانما هو مجموعة من الأقوال الحكيمة والأساطير الشعبية التي ألهم الخالق بعض الأنبياء بها لكنه لم يوح اليهم بها، ومن ثم ، فمن حق المخلوق أن يتصرف بحسب ما يمليه العقل أو العصر عليه، فيغير ويبدل في الشعائر، بل يسقطها تماماً في بعض ال.حيان. ولذا، فان الاصلاحيين والمحافظين لا يلتزمون الوصايا والنواهي، ولا يقيمون شعائر السبت أو الطعام الشرعي الا على نحو جزئي، من قبيل الحفاظ على الفولكلور. وقد أباحت اليهودية الاصلاحية والمحافظة ترسيم النساء حاخامات، كما أباحت الشذوذ الجنسي بين الذكور والاناث، بل ويرسم الآن الشواذ والسحاقيات حاخامين. والأغلبية الساحقة من يهود العالم الغربي اثنية أو محافظة واصلاحية، ولا يشكل الأرثوذكس سوى أقلية لا تزيد عن 5% ويلاحظ اقبال أعضاء الجماعات اليهودية على العبادات الجديدة، مثل البهائية والماسونية وما يسمى ديانات العالم الجديد (الايمان بأن للهرم شكلاً ذا قوة سحرية خارقة، على سبيل المثال).

 

  و) أميركيون وفلاشا

    غير أن ثمة الي جانب هذه التقسيمات الأساسية جماعات هامشية لا حصر لها. وقد أشرنا الى السامريين الذين لا يؤمنون بالتلمود ولا بمعظم كتب العهد القديم، وانما يؤمنون بأسفار موسي الخمسة أساساً بنسختها المختلفة عن تلك المتداولة بين اليهود كافة، ومركزهم هو جبل جرزيم في نابلس، لا جبل صهيون، وهم لا يؤمنون بمجيء المشيح. وهناك أيضاً القراؤون الذين تمردوا على التلمود (بتأثير الفكر المعتزلي الاسلامي)، وزلزلوا اليهودية الحاخامية من جذورها، لكن لم يبق منهم سوى بضعة آلاف في كاليفورنيا وبعض مناطق روسيا واسرائيل.  وهناك بقايا يهود كايفنغ في الصين، يعبدون يهوه الذي يسمونه تين (السماء)، ويتعبدون في معبدين يهوديين، أحدهما لعبادد الالاه والآخر لعبادة الأسلاف. وهم لا يعرفون لا التلمود ولا التنوراة، وملامحهم لعبادد الاله والآخر لعبادة الأسلاف. وهم لا يعرفون لا التلمود ولا التوراة، وملامحهم صينية تماماً. ويمكن أن نشير الى يهوديتهم بأنها يهودية كونفوشيوسية (تماماً مثلما نجد أن يهودية بني اسرائيل في الهند يهوديد هندوكية). وهناك عشرات من الجماعات والطوائف والفرق اليهودية الأخرى الهامشية.

  لكن بدلاً من الدخول في تفصيلات لا حصر لها، يمكن أن نقارن بين عينين: احداهما مركزية وتضم يهود الولايات المتحدة الذين يشكلون أكبر تجمع يهودي في العالم، والأخرى هامشية وتضم الفلاشا الذين يشكلون تجمعاً صغيراً هامشياً ومنعزلاً.

  ينتمي يهود الولايات المتحدة في الدرجة الأولى، الى الجنس الأبيض، وأغلبيتهم الساحقة من أصل أشكنازي (ألماني أو روسي/ بولندي). وتوجد قلة من السفارد، والقرائين، والكرمشاكي (وهم ينتمون الى جماعة يهوديد صغيرة من شبه جزيرة القرم، يتحدث أعضاءها بالتترية، ويبدو أنهم من بقايا يهود الخزر). وهناك أيضاً بعض الأميركيين السود الذين يدعون «العبرانيين السود»، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة شبه يهودية تتحدث عن مؤامرة الانسان الأبيض لفصل آسيا عن افريقيا عن طريق شق قناة السويس، ويدعون أنهم هم العبرانيون الحقيقيون، ومن ثم يرون أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في استرداد اسرائيل والاستيطان فيها وحكمها. وتوجد جماعة منهم في شيكاغو هاجرت أعداد منها الى اسرائيل، حيث استقروا في جوار ديمونا وفي أماكن أخرى. وهؤلاء لا تعترف اسرائيل والمؤسسسات الحاحخامية بهم في طبيعة الحال، ولذا، فهم يشكلون أقلية منبوذة داخل كل من الدولة الصهيونية والجماعة اليهودية في الولايات المتحدة.

   أما الفلاشا، فهم من يهود اثيوبيا، وملامحهم لا تختلف من قريب أو بعيد عن ملامح بعض قبائل أو أقوام اثيوبيا. واذا كان هناك بينهم من تنويعات، فهي تنويعات تشبه في بعض الوجوه التنويعات الموجودة في مجتمعهم. وهناك جماعة الفلاشا موراه، وهي جماعة مسيحية شبه يهودية منبوذة من الفلاشا كانت قد تنصرت منذ ما يقرب قرنين من الزمان.

   ومن الناحية الدينية، ينقسم يهود الولايات المتحدة الى قسمين أساسيين: يهود اثنيون لا أدريون، ويهود متدينون، وهؤلاء ينقسمون بدورهم الى اصلاحيين ومحافظين وتتجديديين وأرثوذكس (ويوجد بعض الفرق الأخرى شبه الدينية من أتباع العبادات الجديدة). واليهود الدينيون في الولايات المتحدة يتعبدون في المعبد اليهودي (السيناغوج)، ويرئسهم حاخام، ولا يقيمون معظم الشعائر، ولا يكترثون بالطعام الشرعي أو بشعائر السبت والطهارة والنجاسة.

  أما الفلاشا / فهم أساساً خارج نطاق اليهودية الحاخامية، ولا يعرفون التلمود. ويختلف بعض شعائرهم عن شعائر اليهودية الحاخامية، فشعائر الطهارة والنجاسة عندهم مركبة وشاملة، ومع هذا، فهم يقيمون شعائرهم كلها (وقد صدموا حينما هاجروا الى اسرائيل بسبب انصراف أعضاء الدولة اليهودية عن الشعائر اليهودية). ويرئس يهود الفلاشا قساوسة (يبقال لهم قسيم)، وهم يعرفون نظام الرهبنة، اذ فيهم رهبان وراهبات، ويصلون في معبد يهودي يسمى المسجد، ويخلعون نعالهم قبل دخوله!

   ومن ناحية اللغة، فان يهود الولايات المتحدة يتحدثون بالانكليزية، ويعرف بعض علمائهم العبرية والأرامية. كما توجد العبرية في بعض كتب الصلوات. أما يهود الفلاشا، فهم يتحدثون بالأمهرية (ويتحدث بعضهم بالتيغرينية)، ويتعبدون بالجعيزية، لغة الكنيسة القبطية الاثيوبية، ويضم كتابهم المقدس بعض نصوص العهد الجديد.

  ولكل جماعة يهودية خطابها الحضاري وفولكلورها الذي ينبع، في حالة يهود أميركا، من محيطهم الحضاري الحالي (الأميركي)، أو من محيطهم الحضاري السابق (روسيا- بولندا- ألمانيا- انكلترا). أما في حالة يهود الفلاشا/ فهو ينبع كله من محيطهم الحضاري الاثيوبي الافريقي. وفي حين أن اليهودي الأميركي يرتدي البنطال «الجينز« ويأكل «الهامبرغر »ويرقص الديسكو ويعش في منزل عصري، وقد يطعم حديثه ببعض الكلمات الييديشية، ويتحدث بعض الحسيديين منهم بالييديشية كما يحتفظ بعضهم بالأزياء التي كانوا يرتدونها في شرق أوروبا، فان يهودي الفلاشا يرتدي شالاً لا يختلف عما يرتديه من حوله من أبناء اثيوبيا، وهو يأكل طعامهم، ويرقص الرقصات المعروفة في منطقته، ويعيش في كوخ مغطى بالحطب لا يختلف من قريب أو بعيد عن الأكواخ المجاورة. والوضع الاجتماعي ليهود أميركا (نسبة الطلاق- الوظائف- المهن) ورؤيتهم للكون مختلفان تماماً عن وضع اللاشا ورؤيتهم. ولهذا كمله، فبينما كانت الدولة الصهيونية تتلهف لهجرة يهود الولايات المتحدة اليها، فانها كانت ترفض هجرة الفلاشا حتى سنة 1973. ولئن كانت الدولة الصهيونية تشجع هجرتهم الان، فليس ذلك بسبب أي تغيير طرأ على هويتهم وانما بسبب تغييرات طرأت على سياسة الدولة الصهيونية، بل أيضاً على هويتهم وانما بسبب تغييرات طرأت على سياسة الدولة الصهيونية، بل أيضاً على هويتها ومدي حاجتها الى العنصر البشري، بل ان الدولة الصهيونية بدأت ترحب بالفلاشا موراه، مع أن هؤلاء لا يمكن اعتبارهم يهوداً مهما يتم من تطويع للكلمات قسراً.

 

ز) جماعات يهودية

    يمكن القول ان الاختلافات بين يهود الولايات المتحدة ويهود الفلاشا هي حقاً اختلافات جذرية في جميع المجالات. لكن قد يقال ان مثل هذه الاختلافات العميقة موجود عادة بين المركز والأطراف في أي تكشيل حضاري أو نسق ديني، فالجماعات المسيحية المتطرفة (المورمون مثلاً) مختلفة جوهرياً عن الأشكال المركزية للمسيحية، والقول نفسه ينطبق على الاسلام. وفي هذا بعض الصدق. بيد أن وضع اليهود واليهوية يظل فريداً الى حد كبير، فالمركز في اليهودية اختفى منذ أمد طويل، الأمر الذي سمح بتطور الأطراف علي نحو مستقل تماماً عن المركز، أي مركز، وأصبح للأطراف شرعية لا تقل عن شرعية ما يسمى التيار الأساسي في اليهودية. وحتى قبل أن ختفي المركز، كان النسق الديني اليهودي يحوي تناقضات عميقة كثيرة، وعدد كبير من المفاهيم الدينية لم يستقر، فالسنهدرين (أعلي سلطة دينية يهودية في القرن الأول الميلادي) كان يضم الصدوقيين الذين كانوا يومنون بيهودية وثنية هرمية صارمة لا بعث فيها ولا ايمان/ وانما عقيدة جافة جامدة تدور حول القرابين والشعائر المنظبطة والمرتبطة بالأرض تماماً. لكن السنهدرين كان في الوقت ذاته يضم الفريسيين الذين كانوا يومنون بالبعث بضرورة الايمان باليوم الآخر (ولذا كانوا يقومون بالتبشير باليهودية، وهو الأمر الذي لا تعرفه اليهودية). وعلى الرغم من الاختلافات العميقة، كان الصدوقيون والفريسيون يجلسون جنباً الى جنب في السنهدرين، ويمارسون نشاطهم الديني. ولا يمكن تفسير هذا الموضع الا بعدم تبلور النسق الديني اليهودي قبل تحطيم الهيكل وسقوط المركز. يضاف الى هذا ما يمكن تسميته التعريف الثنائي لليهودي على أساتس عقدي وعلى أساس عرقي. وذلك كله سمح بظهور ما يمكن تسميته الخاصية الجيولوجية لكل من العقيدد اليهودية والهوية اليهودية (أو العقائد والهويات اليهودية ان أردنا توخي الدقة)، وهى أن هذه العقائد والهويات تأخذ شكل تركيب جيولوجي مكون من طبقلات مختلفة، مستقلة ومتراكمة أو متجاورة، لكنها غير ملتحمة أو متفاعلة، كما أنها لا تخضع لآية معيارية مركزية. ومع هذا، فان هذه العقائد كافة سميت «يهودية»، وسمي كل هؤلاء «يهوداً»، وهو أمر كان مقبولاً أو يمكن تجاهله من قبل. لكن مع ظهور الدولة الصهيونية وبداية المواجهة بني هذه العقائد وتلك الهويات، تفجر السؤال الذي لا يزال يبحث عن اجابة: من هو اليهودي؟

   لهذا كله، نجد أن مصطلح «يهودي» مصطلح عام للغاية، ومقدرته التفسيرية والتصنيفية ضعيفة ان لم تكن منعدمة بسبب عموميته واطلاقه، ولدا، فاننا نفضل استخدام مصطلح «جماعات يهودية»، ونحرص على استخدامه قدر استطاعتنا (الا اذا تطلب السياق غير ذلك)، فهو مصطلح يعزل هذه الجماعات اليهودية عن غيرها من الجماعات باستخدام كلمة «يهودية»، لكنه يؤكد في الوقت ذاته عدم تجانسها باستخدام كلمة «جماعات».

 

   ثانياً: تعداد اليهود وتوزيعهم

 

  أ) الدياسبورا الدائمة

    يقال ان عدد العبرانيين القدامى قبل التهجير الى بابل كان يبلغ نحو 000،008،1شخص، وان ذلك العدد تناقص بعد التهجير. وحينما سمح قورش ليهود بابل وآشور بالعودة، فانه لم يعد منهم سوى أعداد صغيرة (اندمج يهود بابل في محيطهم الحضاري وانصهر يهود آشور). وعلى هذا، تزايد عدد اليهود بعد ذلك ليصل الى ثمانية ملايين يهودي في القرن الأول قبل الميلاد، وهذه كلها تقديرات تخمينية، اذ يذهب تقدير آخر الى أن عددهم كان لا يزيد عن خمسة ملايين. لكن مهما يكن الأمر، فان المؤرخين كافة يجمعون علي أن عدد اليهود في فلسطين كان لا يشكل سوى ثلث عدد يهود العالم، وذلك قبل أن يهدم تيتوس الهيكل، أي أن الفكرة القائلة ان اليهود مرتبطون ارتباطاً أزلياً بصهيون (فلسيين) وانهم لا يتركونها الا قسراً هي فكرة تتنافي مع واقع التاريخ. فالدياسبورا، أو الشتات اليهودي، مسألة طوعية، وليست مرتبطة بعملية اكراه خارجية. وحالة الدياسبورا حالة دائمة بغض النظر عما كان يحدث في فلسطين. بل انه حينما يتجه بعض أعضاء الجماعات اليهودية الى فسطين للاستقرار فيها، فان ذلك ينبع من حركيات لا علاقة لهات بصهيون. وعلى كل،ها هي الدولة الصهيونية قد فتحت بواباتها داعية يهود العالم الى المجيء اليها، فهي تعاني أزمة سكانية، غير أن يهود العالم لا يأتون الا قسراً (كما حدث مع اليهود السوفيات)، اذ ان الأ غلبية الساحقة تفضل البقاء في، أو التوجه الى الولايات المتحدة (بل الحديثة)، التي يشار اليها بالييديشية بأنها «غولدن مدينا»، أي البلدة الذهبية- أرض الميعاد الاستهلاكية التي تفوق في جاذبيتها أرض الميعاد الصهيونية.

 

ب) الانعزالية اليهودية

    أشرنا الى اندماج يهود بابل وانصهار يهود آشور، ويمكن أن نشير الى تأغرق يهود الاسكندرية ونسيانهم لغتهم في الدولة البطلمية، ولذا كان لا بد من ترجمة العهد القديم الى اليونانية. وأشرنا أيضاً الى أن عدد اليهود في بداية العصر المسيحي كان قد وصل الي عدد ملايين. لكن يلاحظ أنه مع بداية العصور الوسطى في الغرب، كان عدد أعضاء الجماعات اليهودية يتراوح بين مليون واحد ومليونين (تركز أغلبهم في العالم الاسلامي). وقد ظل عددهم من دون تغيير ملحوظ حتى القرن الخامس عشر الميلادي. ولنا أن نلاحظ انخفاض عدد اليهود الى الخمس، على الرغم من عدم حدوث هجمات أو عمليات ابادد ضخمة ضدهم أو انتشار أوبئة. ولذا، لا يمكن تفسير هذا الانخفاض الا بأن عملية الاندماج والانصهار والذوبان كانت مستمرة على قدم وساق، أي ن فكرة الانعزالية اليهودية ومقدرة اليهود على مقاومة الانداماج هما مجرد أسطورة تتنافى مع الحقائق التاريخية، فأعضاء الجماعات اليهودية، ش.نهم شأن جميع الأقليات والجماعات الأخرى، خاضعين لحركيات انسانية عامة يؤدي بعضها الى العزل والعزلة، ويةوي بعضها الآخر الى الاندماج والانصهار.

 

ج) ظهور يهود بولندا/ روسيا

   وتزايد عددهم

     كان اليهود، كما أسلنا، مركزين في العالم الاسلامي، وأغلبيتهم من السفارد، ولم يكن الأشكناز سوى أقلية. لكن الصورة تغيرت في القرن الخامس عشر، اذ كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولدنا يبلغ 10-1648. وبذا أصضبحوا أكبر تجمع يهودي في العالم (بعد تصفية الجيب اليهودي في شبه جزيرة أيبيريا). واستمرت الزيادة حتي بلغ عدد يهود العالم في أواخر القرن السابع عشر نحو مليونين ونصف مليون، كانت أغلبيتهم العظمى (57،1 مليون) في أوروبا، منها 2،1 مليون في بولندا وحدها. أي ان يهود أوروبا أصبحوا يهود بولندا. ويفسر آرثر كوستلر هذه اليادة على أساس ما يسميه الشتات الخزري، أي هجرة أعداد كبيرة من يهود الخزر بعد سقوط مملكتهم واستقراراهم في بولندا. وهذا كله انما يسدد ضربات الى فكرة نقاء اليهود العرقي والحضاري.

   وتستمر الزيادة المطردة في عدد الأشكناز بينما يبقى عدد السفارد ويهود الشرق على ما هو عليه. وقد تمتع الأشكناز بطفرة سكانية لم ير أعضاء الجماعات اليهودية مثيلاً لها عبر التاريخ الانساني، فزاد العدد الى 6 ملايين شخص سنة 1860، والى 000،005،10 شخص سنة 1900، والى 000،005،16 شخص سنة 1939، والأغلبية الساحقة (9،90%) من الأشكناز، الذين تمركز معظمهم في روسيا وبولندا، وقلة صغيرة من السفارد والشرقيين (1،9%). أي ان عدد يهود الأشكناز ارتفع عشرة أضعاف من سنة 1800 (000،005،1) الى سنة 1939 (000،000،15). وقد كان هذا أحد الأسباب التي أدت الى ظهور المسألة اليهودية ثم الحركة الصهيونية ذاتها، باعتبارها الحركة التي ستنقل الفائض البشري اليهودي الى موقع استيطاني خارج أوروبا. ويجب الاشارة الى أن زيادة تعداد أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب لم يكن ظاهرة يهودية خاصة، وانما ظاهرة غربية عامة، فقد ارتفع عدد سكان أوروبا في فترة 1815- 1914 من 190 مليوناً الى 400 مليون. وتعود الزيادة في أوربا بصورة عامة الى زيادة نسبة المواليد وقلة الوفيات، وذلك بسبب الثورة الصناعية وما صاحبها من تحسين للأواع الصحية والطبية.

   ومع هذا/ يلاحظ أن نسبة زيادة عضاء الجماعات اليهودية كانت أعلي من النسبة العامة في أوروبا. ولعل هذا يعود الى أن أعضاء الجماعات اليهودية تأثروا بالأسباب العامة التي أدت الى زيادة تعداد سكان أوروبا نتيجة وجود ظروف خاصة بالجماعات اليهودية مقصورة عليها، من بينها ارتفاع دخولهم نسبياً. وقد انعكس هذا على مستوى التغذية الذي أدى الى تناقص الأمراض المرتبطة بالفقر وسوء التغذية. كما أن الأسرة اليهودية كانت تتمتع آنذاك بدرجة عالية من التماسك الناجم عن التمسك بالقيم الدينية والتقليدية. ويضاف الى ذلك أن زواج اليهود في سن مبكرة قد ساهم في هذه العملية. ومما يلاحظ كذلك أنه في فترة 1800- 1914 لم تقع حروب في الأماكن التي يوجد فيها أغلية يهود العالم (فحتى معارك نابليون وقعت بعيداً عن مراكز التجمع اليهودي). وعلاوة على هذا، كان كثير من الدول لا يجند اليهود، وبالتالي فان اليهود لم يشتركوا في المعارك ولم يكابدوا فيها خسائر في الأرواح.

 

د) موت الشعب اليهودي

    استمر عدد اليهود في التزايد بعد الحرب العالمية الأولى، لكن العوامل التي أدت الي هذا التزايد كانت قد اختفت تماما، وبدأت الظاهرة التي تسمى في علم الاجتماع الغربي ظاهره موت الشعب اليهودي، وهي عبارة وضعها عالم الاجتماع الفرنسي (اليهودي) جورج فريدمان، وتشير الى ظاهرة تناقص أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الى درجة اختفاء بعض هذه الجماعات وتحول الباقي منها الى جماعات صغيرة (لا أهمية لها من الناحية الاحصائية). فيلاحظ مثلاً أن المناطق التي كانت أغلبية اليهود تقطنها أصبحت مسرحاً لكثير من العمليات العسكريد. كما بدأ تجنيد اليهود في القوات المسلحة، وبدأت أعداد كبيرة منهم الهجرة، والعناصر المهاجرة تحجم، الى حد ما، عن الانجاب. وثمة عناصر أخرى أصبحت من ثوابت ديموغرافية الجماعات اليهودية في العالم الغربي (حيث أغلبية يهود العالم)، وهي عناصر تؤدي اما الى اختفاء اليهود تماماً واما الى انخفاض نسبة المواليد. ويمكن أن نورد الأسباب التالية التي تؤدي الى تناقص أعداد اليهود فعلاً (من دون حدوث مذابح أو انتشار أوبئة):

أ- تزايد معدلات الاندماج، فكثير من اليهود الذين يندمجون يخفي هويته اليهودية وانتماءه اليهودي ويسجل نفسه بوصفه غير يهودي. ويبلغ عدد اليهود الذين أخفوا هويتهم في الاتحاد السوفياتي مليوناً ونصف مليون تقريباً. كما يوجد الألوف من اليهود الذين هاجروا الي أميركا اللاتينية بشهادات تعميد أصدرها الفاتيكان لهم في أثناء الارهاب النازي، وقد آثروا أن يحتفظوا بهويتهم الجديدة.

ب- يلاحظ أن هناك أعداداً لا بأس فيها من أعضاء الجماعات اليهودية تنتصر أو تنخرط في سلك العبادات الجديدة، ومن ثم تسقط عن نفسها تسمية «يهودي».

ج- من أهم أباب اختفاء اليهود الزواج المختلط الى رجة لم يشهدها يهود العالم من قبل. وقد بلغت معدلات الزواج المختلط في الولايات المتحدة ما يزيد على 50%، وبلغت في الاتحاد السوفياتي أحياناً 80%، وذلك في الأماكن التي تقطنها أقليات يهودية صغيرة بعيدة عن مراكز التجمعات اليهودية الكبرى. وفي كثير من الأحيان يسقط الزوج اليهودي في الزيجة المختلطة هويته حتى لا يسبب الحرج لزوجه. ولا يعوض عدد المتهودين، من أجل الزواج، من عدد المتنصرين للسبب نفسه. ويلاحظ أنه بتأثير حركة التمركز حول الأنثى، بدأت الأنى اليهودية، التي كانت تعد في الماضي العمود الفقري للهويات اليهودية تندمج في المجتمع الذي تعيش في كنفه بمعدلات تقترب من معدلات الذكور، وهي تقبل الان على الزواج المختلط بعد ن كان ذلك مقصوراً تقريباً على الذكور. ويلاحظ أن أبناء الزواج المختلط يكونون عادة اما غير يهود واما غير مكترثين باليهودية.

   أما بالنسبة الى انخفاظ نسبة المواليد بين أعضاء الجماعات اليهودية، فمن المعروف أنها تصل في الوقت الحاضر الى واحدة من أقل النسب في العالم، اذ بلغت 16 في الألف. وفي حين أن المرأة اليهودية في اسرائيل تنجب 8،2 من الأطفال، فان المرأة اليهودية في الولايات المتحدة تنجب 5،1 طفل، ويعود ذلك الى الأسباب التالية (مع ملاحظة أن بعض هذه الأسباب ليس مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية، وانما هو ظاهرة عامة في المجتمعات الغربية التي توصف ب«المتقدمة»):

أ- تفشي قيم المنفعة واللذة والفردية والأنانية في المجتمعات المسماة متقدمة، وهي قيم تتناقض مع فكرة الأسرة والزواج وانجاب الأطفال وتنشئتهم، بكل ما يتضمن ذلك من قيد على الحرية وتخل عن المتعة الحسية المباشرة.

ب- الزواج المتأخر، وهو ظاهرة عامة في المجتمعات المسماة متقدمة ناجمة عن تصدع مؤسسة الأرة، وعن امتداد الوقت الذي تستغرقه العملية التعليمية، وتأخر الاستقلال الاقتصادي للأبناء.

ج- تزايد عدد الشاذين جنسياً في المجتمعات المسماة متقدمة (بنسبة تصل في بعض مدن الغرب الى 03%)، وهناك نسبة عالية منهم من اليهود. وينتمي معظمهم الى المرحلة العمرية النشيطة جنسياً، وهذا يعني أن عدداً كبيراً من الذكور والاناث ينسحب من عملية الانجاب.

د- انسحاب كثير من النساء من عملية الانجاب في المجتمعات المسماة متقدمة بتأثر من حركة التمركز حول الأنثى، التي تجعل أي نشاط أنثوي خاص (مثل الانجاب) أمراً سلبياً أو معوقاً لنشاط المرأة في الحياة العامة. ومن المعروف أن معظم قيادات هذه الحركة من اليهوديات، وأن نسبة اليهوديات المنخرطات فيها تفوق المعدل القومي.

هـ- تفسخ الأسرة اليهودية وتزايد نسبة الطلاق، وهما أمران يزيدان في الاحجام عن الانجاب.

و- تركز أعضاء الجماعات اليهودية في المدن، فهناك خمس مدن أميركية تضم أكثر من نصف الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. (نيويورك 000،054،1، لوس أنجلس 000،094، شيكاغو الكبرى 000،248، ميامي 000،199، فيلادلفيا 000،250). وأكثر من نصف مجموع يهود أميركا اللاتينية (000،200) موجود في يوينس أيريس، و.كثر من نصف يهود جنوب افريقيا (000،63) موجود في جوهانسبرغ، وأكثر من نصف يهود فرنسا (000،380) موجود في باريس، وهكذا. أما النصف الثاني فموزع على مدن كبرى أخرى، أي أن الأغلبية العظمى من أعضاء الجماعات اليهودية موجودة

  في مراكز حضرية، ومن المعروف أن المدن لم تستطع عبر التاريخ أن تحتفظ بكثافتها السكانية من خلال التزايد الطبيعي.

  وقد أدى هذا كله الى تناقص عدد المواليد. كما أن مستوى العناية الصحيحة آخذ في التحسن، وهو ما يؤدي الى زيادد معدلات العمر ونسبة كبار السن الذين يعتبرون شريحة غير خصبة من الكسان. ويلاحظ أن 16% من أعضاء الجماعات اليهودية تتجاوز أعمارهم 65 عاماً، وتصل نسبة المسنين بينهم الى 29% أحياناً.

 

 

 

 

 

 

صفحة تالية